قصة قصيرة بعنوان نطفة حياة .

الأسرى

    نطفة حياة....

    أين أمي؟ هكذا استقبل يوسف إخوته ـ بصوتٍ بارد ـ عندما جاؤوا لزيارته، باحثاً عن دفء أمه بين وجوههم.

محمد.. علي.. سارة، أين أمي؟ ثم أخذ يسأل كل واحدٍ منهم على حدة ... أين أمي؟ إلا أنّ أحداً لم يجب. أبرقت الدموع في عينيّ سارة؛ فصاح فيها... أين أمي ؟ 

    أخذ يتصفح وجوه إخوته من خلف الزجاج، ويقرأ حزناً عميقاً فيها، ثمة شيء مفقود من عيونهم، شيء تجسده كلمة " أمي " .

    وهنت قواه.. وأخذ الحزن يتسلل إلى ملامحه، وشعور العجز لبس أطرافه، وغصة ألمٍ شقّت طريقها إلى قلبه، وتهاوت سماعة الهاتف من يده، صمت هنيهة ثم ابتلع ريقه وانقضّ على السماعة وحشرج بكلمة "أمي" .

   تبرع محمد ـ كونه أكبرهم ـ ليجيب عن سؤاله: أمي تراها في مكانٍ أجمل يا أخي، بلا قضبان.. بلا سجّان.. بلا جدرانٍ واحتلال، أمي تركتنا منذ شهر ولكن قبل أن ترحل قالت: يوسف في قلوبكم.

    حينها هوت سماعة الهاتف مجدداً وهوى يوسف خلفها مرتطماً رأسه بالأرض بقوة؛ فأخذ أخوته يضربون على الزجاج، مُحدثين جلبة في المكان؛ انهال على إثر صرخاتهم الحراس في الاتجاهين، بعضهم نظر في حال يوسف والبعض الآخر تولى مهمة ضبط  إخوته.

***

    مرت خمسة شهورٍ على وفاة والدته، إلا انّه ظل متحارباً مع فكرة رحيلها، ويعيش في سجنٍ ثانً داخل روحه .

   وبينما كان يتبادل رفاقه أطراف الحديث، كان مُلقاً على "البرش" في زاوية الغرفة، ويغوص في شروده المعتاد، فإذا برفيقه عمر يضع الغزال ـ الهاتف بلغة السجن ـ على أذنه، وينسلّ هارباً .

    اخترق طبلة أذنه صوتٌ ناعمٌ، نقلته أمواج الهاتف ليستبيح حرمة هدوئه..

ألو ألو.... تردد الصوت الناعم في أذنه، استغرب الأمر ثم تشجع على الرد بنفس الكلمة، ألو ...

فأجابه الصوت الناعم :

ـ من أنت؟

ـ بل أنتِ من!

ـ عفواً ...!

ـ لماذا تكلمينني إذا كنتِ لا تعرفين من أكون؟

تستفزها كلماته فتتخلى عن نعومتها وترد بصوتٍ غاضب وبموجة عالية جداً:

ـ ومن أنتَ حتى أعرفك لأكلمك ؟

هه... من تكون لأكلم أمثالك. كلكم قرأتم عند نفس الشيخ؛ تتطفلون علينا ثم تتظاهرون بالغباء..

تنفعل أكثر وأكثر، بينما هو هادئ، متفاجئ، يستقبل مسباتها. تزيد من وطيس غضبها، تشتم الرجال عامة، وتختم بجملة: كن رجلاً على الأقل

    تناول عمر الغزال وراح يخبأه بحذر، بينما لم ينطق يوسف بحرف...

جلس مصدوماً، يفكر بالثورة التي اشتعلت في الهاتف قبل لحظات. استغرق في هدوئه بضع دقائق، وكلل تفكيره بجملة "كن رجلاً على الأقل" ثم شجع نفسه على السؤال...

ـ عمر، من تكون هذه؟

ـ هذه من؟

ـ هل تتذكر أول مرة جئنا فيها إلى هذا العالم؟ هل تتذكر المسلخ؟ أجبني وإلا...

ـ إلا المسلخ يا عزيزي، سأجيبك..

 تظاهر بالغباء ثم أردف: هذه فتاة

ـ نعم ! يا إلهي ظننت أنّها شاب...

يرفع يوسف من حدة صوته ويكمل: ومن تكون هذه الفتاة لتكلمني!؟

ـ بل أنتَ من كلمها..

ينفعل يوسف ويعيد كلمة المسلخ؛ فأخذ عمر يقصّ عليه قصة الفتاة..

ـ الحقيقة لا أعرف اسمها، ولكن حالتك هذه التي لا تشبه الحياة أقلقتني كثيراً، ورغبت في إخراجك من عزلتك

ـ وكيف ذلك؟ وما علاقة هذه الفتاة بحالتي؟

ـ بالحبّ

يضحك يوسف لأول مرة منذ وفاة والدته، ويكمل ضاحكاً..

ـ أقلت حبّ! حبّ من يا هذا؟

ويكمل ساخراً مقطع من أغنية لأم كلثوم:

حبّ أيه إلي انتَ جاي تقول عليه!! الحبّ، وهذه الفتاة، وماذا بعد أيها المخرج السينيمائي؟

يسرد عمر بعض التوضيحات:

ـ هذه صديقة خطيبتي في الجامعة، وحدثتني عن حسن أخلاقها ما طاب وجمل..

ـ وما علاقتي بها؟ وإن كانت طيبة الخلق ما شأني أنا يا أهبل!

ـ مجرد فكرة جالت في خاطري، وناقشتها مع خطيبتي ألاء وهذا ما حدث. لدي إيمان بأن الحبّ حلٌ لكل شيء، الحبّ صفاء.. نقاء.. سلام.. حرية.. الحبّ وطن.

ـ وماذا بعد؟ بقي الكثير من الكلمات الوطنية، هلّا ساويتها بالحبّ! هذا كله عواقب تحديقك بتلك الشاشة اللعينة طوال اليوم، وأنا الذي ظننتك لا تتابع إلا البرامج الوطنية والثورية، أكتشف أنّك تأخذ دروساً في الحبّ! حافظ على هيبتك يا هذا، حافظ على الشرف الذي أُسرت لأجله.... حبّ هه

يُستفز عمر من كلمات يوسف المُهينة، ويرد متحاملاً على نفسه: انسَ أمر الفتاة، ولكن تذكر أننا موجودون هنا لأجل الحبّ.. ألم تبع حريتك لأنك تحبّ وطنك؟

***

     عاد يوسف إلى زاويته، كانت الصورة مقلوبة في رأسه وأخذت تتعدل  شيئاً فشيئاً، تناول مسبحته المعلقة جانبه وأخذ يُزيح خرزاتها بأصابعٍ مُثقلة دون أن يردد أياً من كلمات التسبيح أو الاستغفار، فقط كان يُزيح مع كل خرزة صورة من عقله ويستحضر صورة أخرى، فكر بسنواته العشر المتبقية له ليعانق الحرية، تمناها لو كانت مسبحة يشد خيطها ويفرطها؛ فتتناثرسنواته. أخذ يلملم الأفكار المفروطة في عقله، وطرقت قلبه فكرة

.... " الحبّ "

***

    هل كان عمر محقاً بما قاله عن الحبّ؟ ولكن ماذا عن سنواتي العشر؟ من أين سيأتي الحبّ!

ألهذا الحدّ بتُ بليد الإحساس؟ لا أعرف معنى الحبّ، وتنعتني إحداهنّ بعدم الرجولة! يا تُرى من تكون هذه الثورة التي هبّت عبر أمواج الهاتف؟ من هذه التي تراهن على أنّني لست رجلاً؟

***

    صباح اليوم التالي أخبرهم الشاويش أنّ إدارة السجن تُأهبّ نفسها للانقضاض على غرفهم في حملة تفتيشية كما كل فترة، ويكون هدف كهذه حملات البحث عن الهواتف المهربة.

    على الرغم من بذلهم أقصى جهدهم في إخفاء الغزال إلا أنّ وحوش الظلام انقضّت عليه وصادته ونهشت أملهم المهرب وسال دم اشتياقهم مشبوعاً بصوت أهلهم، الذي سينتظر أن يُهربوا واحداً جديداً ليطرق آذانهم.

    صام رفاق الغرفة عن صوت أحبّائهم، وأما يوسف الذي عاد يبادل رفاقه أحاديثهم يجلس مع عمر في أحد أكناف الغرفة... فيسأله:

ـ ما اسمها؟

ـ من؟

ـ فتاة الهاتف

ـ لا أعرف اسمها، لم تخبرني خطيبتي باسمها وأنا لم أسألها عنه. ولماذا تريد معرفة اسمها استاذ يوسف!

راح يوسف يداري الارتباك الذي ولج فيه، نقل نظره إلى سقف الغرفة، وتأتأ:

ـ مجرد فضول

ابتسم عمر ابتسامة خبيثة وقال:

ـ فلينتظر فضولك يا صديقي إلى أن نؤمن هاتفاً آخر، وسأعرف لك اسمها وإن أردت معلوماتٍ أخرى عنها

ـ لا يهم.. قلت لك مجرد فضول

***

    و ما هي إلا أيام حتى أمّنوا هاتفاً آخر. تناوب رفاق الغرفة بالحديث إلى أهلهم، و بينما يتحدث أحدهم يتولى الباقي مراقبة الأوضاع.

    بدت الأجواء حميمية، وابتساماتٍ ورديّة أزهرت على وجوههم، ولمعة أملٍ أبرقت في عيونهم.

    في مساء ذات اليوم جلس الرفاق يتسامرون.. هذا يغني موالاً، وذاك يشد على غليونه، تعالت ضحكاتهم وكلٌ منهم أخذ يفرغ ما في جعبته من أخبار الخارج التي سمعها من أهله، ويزرع أملاً جديداً، شقّ على اليأس أن ينال منه.

     صفعة قوية طُبعت على ظهر يوسف، اهتزّ كيانه؛ فأمطر كأس الشاي الساخن على جسده، فأحسّ بحرارته تغتال حرمة شروده وصفوته، كاد يتلفظ بشتيمة إلا أنّ عمر تداركه بكلمته اللاحقة لصفعته:

ـ سحر

أخذ يوسف يُزيح قطرات الشاي التي عانقت وجهه وتخللت ما بين لحيته، وأجبر لسانه على كتم الغيظ، ورد على عمر بمضض:

ـ من سحر؟

ـ تحدثت إلى خطيبتي ألاء اليوم وأخبرتني أنّ اسمها سحر، وأرح بالك هي أيضاً مثلك لا تدري بهذه القصة، هي مثلك تفاجأت بألاء تضع الهاتف على أذنها؛ يعني أنّك أنت من اتصل بها يا يوسف، يعني أنّك مدينٌ باعتذارٍ يا هذا..

يستشيط يوسف غضباً ويرد بحدة: أنت تتهور وتتصرف بدراماتيكية، وأنا أدفع ضريبة مسلسلاتك الفاشلة! أنت من عليه الاعتذار.

يضحك عمر باستفزاز ويرفع سبابته ويشير إلى وجه يوسف ويقول: لكنّ هذا الملاك الذي أمامي هو من كلم سحر، ما شأني أنا لاعتذر. أنا تكبدت عناء الخطة الفاشلة، ولن أتكبد الاعتذار أيضاً. ولكن تذكر أنّها قالت لك "كن رجلاً". على الأقل كن رجلاً واعتذر سيد يوسف.

    حركت كلمات عمر المستفزة الرغبة في نفس يوسف للاتصال بها والاعتذار عما حدث. في الحقيقة كانت الرغبة كامنة في ذاته وتحامل على الاعتراف بذلك حتى لنفسه.

    خضع يوسف لرغبة قلبه ورغبة عمر في لاعتذار، وهيأ أذنيه لينصت إلى تلك الثورة من جديد.

***

    بدأت أفكار جديدة تتسلل إلى فكر يوسف بعد أن اعتذر إلى سحر، وبين لها أنّ ما حدث كان سوء فهم، أما هي مشتعلة الكلمات ردت بحدة:

ـ أتمنى فعلاً أن يكون سوء تفاهم، ومن باب الاحترام أقبل اعتذارك

أسعف نفسه بجملة تُزيح عنه سوّط كلماتها الحارة:

ـ صديقتكِ ألاء مدينة لك بتوضيح؛ اسأليها عن أفكارها وخطيبها عمر

تصفعها جملته فترد متفاجأة: من أين تعرف ألاء وعمر، من أنت؟

عادت الثقة إلى لسانه وردّ باعتزاز: أنا يوسف من قلعة النقب، وإن سألتِ عن مدينتي فأنا من جبل النار

ـ إذاً أنت رفيق عمر في الأسر؟

تلاشت الحدة من صوتها وتمنت الحرية له ولجميع الأسرى، ثم أنهت الحوار بلطف.

    أسكت يوسف شريط الحوار المُدار في عقله للمرة الألف، وأخذ يحدق بكلمة " الحبّ ". ثم يشت عنها ويفكر بسنواته العشر، وأخذ صديقه عمر مثالاً؛ فتذكر عندما سأله عن خطيبته ألاء كيف ستنتظره ثماني سنوات، قد يخرج فيها وقد لا يخرج! فأجابه حينها " ستنتظرني بالحبّ يا صديقي ". ثم قفز مجدداً عبر صديقه عمر إلى الحبّ، فقال في نفسه:

" ماذا لو كانت إحداهنّ تحبني، وتفتخر بأن حبيبها بطل، وتنتظرني عشر سنوات؛ فألاء انتظرت عمر ثلاث سنوات وبقي من عمر انتظارها ثماني سنوات ".

    قطع حديثه مع نفسه واستنكر سذاجته، لكن ما الضير أن يكون ساذجاً؛ يتخيل نفسه يحبّ إحداهن، ويهديها على أعتاب المعركة وردة؛ فتقول " أنت بطلي"...

    ما الضير في أن يفكر بالحبّ! وأن يكون حراً في خياله! فمرارة السجن أشبعته ألماً وكرهاً.

   لكنّه يستحق أن يقول عن نفسه بطلاً؛ فبعد أن عاصر أجيال المقاومة، فأتقن القنص بالحجارة والملتوف، ثم عاش الانتفاضة الثانية وزاحم في ركب الثوّار وأُسر بعدها؛ يستحق أن يُقال عنه بطلاً.

***

    أما شوقه للحبّ والرغبة الدفينة التي تحركت داخله؛ دفعته ليسأل عنها وعن عائلتها وحياتها، فعلم من عمر أنّها في سنتها الدراسية الأخيرة في الجامعة، شقيقة لخمسة أخوة، وأحدهم من شهداء الانتفاضة؛ فتخيلها قمراً بين أربعة نجوم وأخوها الشهيد شمساً تنيرهم شرفاً.

    أما سحر هي الأخرى سألت ألاء عن يوسف، ونفس الأفكار التي طرقت قلبه طرقت قلبها؛ فاشتركا في اللهفة المسروقة.

    أما خطة ألاء وعمر ليزرعوا حبّاً في قلب يوسف قد زرعته في قلب سحر أيضاً؛ فقلب يوسف تربة خصبة للمشاعر الطيبة، أما هي فوجدت المناخ المناسب لتنبت في قلبه كزهرةٍ هاربةٍ من حقل أشواك، فنبتت في قلب يوسف. لكنّ الصاعقة كانت عندما طلبت من ألاء أن تتحدث إلى يوسف.

     حققت ألاء رغبتها في أحد المرات التي اتصل فيها عمر، تعرت من خجلها وتحدثت إليه، فقالت:

ـ هل ترغب في الزواج؟ أعلم أنّك لن تطلب ذلك من إحداهنّ بسبب محكوميتك العالية، فماذا لو طلبت إحداهنّ الزواج منك....

أخذت نفساً عميقاً ثم أردفت: تتزوجني يا يوسف؟ فأنا لا أخجل أن أطلب ذلك من بطل

صُعق يوسف مكانه وربطت الصدمة لسانه؛ فتأتأ بكلمة: لكن....

ـ سأنتظرك يا يوسف

تمالك نفسه وقال: سحر لنبدأ الحديث من البداية كأن لم يكن.. هل تكونين زوجتي، بسنواتي العشر وليالي الانتظار القادمة؟

ـ أقبل يا بطل

***

    كان ذلك سريعاً حقاً؛ فبذور الحبّ التي نثرتها ألاء وعمر أنبتت ثمارها قبل ثمار الموسم. ولا عجب أنّ حبّاً كهذا وُلد بين شخصين لم يريا بعضهما قط... فالحبّ بصيرة لا بصر.

    و كأي فتاة لا تنقص ولا تزيد، أرسل أهله لخطبتها من أهلها بعد أن هيأت نفوسهم لقبول الأمر على الرغم من صعوبته؛ فالحبّ أقوى من أي شيء، وكيف لا يقبلون ببطل؟!

    وكّل أخاه عبر المحامي لعقد قرانه عليها؛ حتى يتسنى لها زيارته، فزارته بعد ذلك مباشرة.

وفي مساء اليوم الذي زارته فيه، لزم زاويته وارتمى على ظهره منتزعاً نفسه من بين رفاقه وسافر عبر بساط الذاكرة إلى المشهد الذي جمعه بها لأول مرة، فغاص في ملامحها، وجهٌ طفوليّ بابتسامة وردية تشع حرية، وعينان كليل السجن أمطرته دموع فرحةٍ برّاقة... للفرح دموعٌ أيضاً.

***

    عاد يوسف للحياة من جديد، وأدرك أنّ ما قاله عمر صحيح، الحبّ حياة.. حرية.. صفاء.. نقاء.. الحبّ وطن!

     و أخذ آخر فترة يفكر بمعنى الحياة الحقيقية، فكر بموضوع النطف المهربة، سلاح الأسرى في معركة الوجود، بعد أن شاهد على التلفاز أبناء أسرى آخرين جاؤوا بهذه الطريقة. بأن تم تهريب نطف من آبائهم وزراعتها في أرحام أمهاتهم لتنبت حرية. فماذا لو هرّب هو الآخر طفلاً!

    نقل الفكرة لسحر، ولما زارته أظهرت رغبتها الشديدة في أن تنجب طفلاً منه.

***

    زرعت سحر في رحمها نطفة أملٍ من يوسف؛ فقد نجحت العملية التي خضعت لها، وبدأت مع المحتل معركة وجودٍ وحرية. عادت السعادة ليوسف، وأخذ يصنع ألعاباً لابنه القادم ويعطيها لزوجته في كل زيارة.. مكللة بالألوان البهية.. مكللة بالحياة. وتعجب من جمال الألوان التي يزين بها ما يصنعه، ألوان فرحٍ وحرية، كأنها سُرقت من خيوط الشمس، ثم يسوقك الأمر لتتساءل عن ذاك السر الذي يجعل جميع الأسرى يتفننون في صنع الجمال وألوان الحياة على الرغم من أنهم لا يملكون إلا الأسود؛ لتقتنع بالنهاية أنّ فاقد الشيء يعطيه!

    وأما سحر فكانت هي الأخرى تتفنن في صنع الأمل ليوسف، بابتسامتها الوردية التي تهديه إيّاها في كل زيارة، يتحدثون فيها عن طفلهم، يفكرون باسمٍ له، ويتخيلون ملامحه بدقة. وفي أحد المرات التي انغمسا فيها بالحديث عن ابنهم قال لها: إن كانت بنتاً سنسميها حياة على اسم والدتي، فتحمل اسم أمي العظيمة وتحمل ملامح أمها الجميلة، والعظيمة أيضاً، وإن كان ولداً سنسميه محمود على اسم أخيكِ الشهيد، فيحمل العزة اسماً ودماً يسري في عروقه.

    مضت أشهر حملها التسعة بغمضة عين، وفي كل يومٍ يكبر جنينها في رحمها يكبر أملها معه وتكبر الحرية في عيون يوسف. استقبلت الشتاء مع شهقة حريةٍ جديدة؛ ففي أحد الأيام الشتوية هاتفها فإذا ببكاء طفلٍ يهز وقار أذنيه، ويهتز قلبه معه.. قالت: قل أهلاً لبنتنا

بكى بعمق وحمد الله كثيراً جداً وصاح بعنفوانٍ لرفاقه " صرت أباً.. صرت أباً "

وعاد يقول لها: أهلاً بالحرية حياة

......

تموت حياة وتولد حياة!