قصة قصيرة بعنوان حلم من بين الركام.

حلم من بين الركام

بفتنتها ...بسحرها الإيحائي الطاغي ...الملهم بأنبل المشاعر، وأرق الأحاسيس.

فلسطين... هذه السوسنة الحالمة بين ذراعي الزمن منذ آلاف السنين، وهي يقظى وإن تظاهرت بالإغفاء، تحتضن مراتع العز والشموخ، وتؤوي بيوتها الالفة والاباء.

في بيت متواضع مفعم بحب ثرى الوطن، نشأ أحمد وترعرع، في أحضان أسرة ربته على كل خلق حسن، وغرست فيه كل معاني الرجولة.

كان أبوه يكدح ليعيل أسرته المؤلفة من سبعة أفراد أكبرهم أحمد، هذا الأب المتفاني لأجل أبنائه والذي يكسب لهم قوتهم بعرق جبينه، كان دوما يحدوه الأمل بأن القادم أجمل، وأن عينيه ستكتحل برؤية أحمد مهندسا يشار إليه بالبنان، فما إن تبادرت إلى ذهنه الآمال العراض حتى ينسى تعبه ونصبه وكدحه في الحال ويدفعه هذا الحلم للتفاني في تربية أبنائه وكسب عيشه بكل ما أوتي من قوة.

في ذات يوم وأثناء عودة أحمد وزملائه من مدرسته في القرية المجاورة سمعوا ضجيجا وأصواتا وأزيز طائرات تحلق في السماء، التهمت قدماه ثلثي المسافة محاولا استطلاع ما يدور حوله وما يحدث في قريته، وما أن اقترب من مشارف القرية حتى سمع دوي انفجارات وطلقات متلاحقة وأبواق العدو تنادي بمنع التجول في قريته.

لم يكن هذا بالشيء الغريب بالنسبة لأحمد ورفاقه، فقد اعتادوا سماع مثل هذه الأصوات، وأكثر في أغلب الأحيان من قبل الاحتلال متى شاؤوا، وكيفما شاؤوا، في غلس الليل، وفي وضح النهار، فالأمر سيان.

انتظروا فترة طويلة حتى تهدأ الأمور، ولكن دون جدوى، بدأ أحمد يسحب أنفاسه بقوة وأخذ بركان الثورة يضطرم بداخله، أترانا سننتظر طويلا هنا؟ سأل زملاءه الأربعة.

وما عسانا أن نفعل؟أجابوه.

فقال بلهفة: لنقاوم ونقذفهم بوابل من الحجارة، فوجودنا هنا لا يجدي نفعا.

قال لهم هذه الكلمات وقد وضع حقيبته الثقيلة أرضا، وحمل بيديه عدة أحجار، وأخذ يقذفها بكل ما أوتي من قوة في وجه المحتل، حينها حذوا حذوه وبدأ الجميغ يرشقون سيارات الاحتلال المارة بالحجارة.

ودارت بينهم معركة غير متكافئة وينقصها العدل في أغلب الأحيان، وقاوم الشبان بشجاعة وثبتوا في هذه المواجهة لساعات إلى أن فرقتهم نيران العدو وتشتتوا في الشارع، وعادوا أدراجهم للجهة التي جاؤوا منها، في غضون ، لم يتبادر لذهن أحمد أن سبب قدوم المحتل  إلى قريته هو اعتقال عدد من المطلوبين كان هو من بينهم، وأن بيته قد حوصر وعاثوا فيه فسادا بحثا عنه، وأن والده قد تعرض للضرب المبرح والتنكيل من قبلهم في سبيل العثور عليه، حتى إخوته الصغار وأخواته البنات قد أخذوا نصيبا وافرا من التعذيب والضرب، وقد عرف كل ما حصل عندما طاردوه وزملاءه خارج القرية وأثناء مقاومتهم والمواجهات التي دارت بينهم، حيث استطاع العدو الغاشم من اللحاق به وأسره لتبدأ مرحلة جديدة في حياته مختلفة على الإطلاق..مرحلة مريرة قاسية.

أغمض عينيه هنيهة، وأخذ نفسا عميقا.. وفي الواقع لم يكن هناك ما يكفي من الهواء ليتنفسه بحرية، فلا يوجد سوى ذلك الثقب الصغير في الباب الحديدي المحكم الإغلاق، نظر بحزن في يديه فوجدهما داميتين مليئتين بالجروح العميقة والسطحية دون أظافر تعلو أنامله، حاول جاهدا أن يقف لكن خارت قواه، فالدم يقطر من أماكن متعددة من جسده المتعب المنهك جراء التعذيب، رفع رأسه قليلا وأسنده على الحائط المتعفن ذي الرائحة العفنة الكريهة، وبدأت الذكريات تتلاطم بخاطره، بعضها وردي محفور بالذاكرة والآخر قد فر منه، فخارج القضبان أسرة علقت آمالا عراضا عليه، خاصة أنه في مرحلة دراسة الثانوية العامة، وحلمت أن تراه مهندسا، وأب كادح يفني عمره لأجلهم، وأم صابرة لا يتوقف لسانها عن الدعاء لهم بكل ما هو خير.

وهو الآن قد أصبح وحيدا في زنزانته المظلمة، لا تربطه مع الدنيا فيها سوى فتحة صغيرة في أعلى جدارها، يتسلل خلالها القليل من الشمس والقليل من الهواء المشوب بالذكريات والأحزان والأحلام، لا يخرج من عزله في الزنزانة إلا القليل، فقد حكم عليه أن يقضي مدة عشر سنوات من عمره  فيها.

الليل والنهار عنده سواء بداية الأمر، ولكن مع طول المراس استطاع أن يميز بينهما، حيث كانت بضعة خيوط متعاونة من أشعة الشمس تتسلل إليه فيدرك أنه النهار، والقمر أيضا تعاون معه، فقد كان يرسل إليه شعاعا ليرتسم كقطعة نقد مستديرة وسط أرضية الزنزانة، فيشكر أحمد للقمر والشمس رسولهما الجميل الجريء.

في ذات ليلة اقتحموا عليه زنزانته، حيث بدأوا بتفتيش أغراضه البسطية القليلة، حيث وصلتهم معلومات أن أحمد يمتلك محظورات وممنوعات، فدمروا ومزقوا ونكلوا بها، وأخيرا وجدوها... قصاصات من الورق كان أحمد يكتب فيها عن الوطن، وعن عشقه وحبه للأرض، فكانت هذه الطامة الكبرى.

اقتيد أحمد للتحقيق مجددا... وفي غرفة معتمة وجلاد قاس بدأ التحقيق.

لماذا تكتب عن الوطن؟

لماذا تكتب عن الارض؟ اعترف.

من الذي يدفعك إلى ذلك؟

ومـن وراء كل هذه الأعمال التي تقوم بها؟

لم ينبس أحمد ببنت شفه، استشاطوا غيظا، وزاد الجلاد من قسوة سياطه، أمر المحقق جلاده أن يتوقف ليكمل التحقيق وليسمع ولو كلمة واحدة من أحمد ، ولكن عبثا حاول، فقد شاهد دموعا تنهمر من عينيه .

غضب المحقق وغضب، وأمر الجلاد أن يزيد من قسوة الضربات، وأن يملأ جسده بتواقيع الظلم والأحقاد، فالدمعة تعني أنه لازال يكتب عن الوطن، وانه لازال يكتب عن عشق ثراه، وعن حب دفين لتلك الأرض، طالما ضمه في أكناف قلبه، وفي الوطن يتشابه الوطن بالألم، ويتشابه الحب بالألم.

مر الوقت طويلا وطويلا جدا ... الجلاد ما زال يخط بسياطه على جسد أحمد، حتى بدأ بالابتسام، استغرب المحقق وأمر الجلاد بالتوقف لعله قد استسلم وللتو تحولت بسماته إلى ضحكات، ضحك بصوت عال، ضحك يملؤه الاستهتار ويشوبه الاحتقار لمن حوله، ففي ذروة الألم يتحول طعم الألم إلى مذاق آخر.

سارع المحقق في تلك الأثناء وقدم ورقة وقلماً لأحمد ، لعله يكتب اعترافاته ويدلي بها، فما كان منه إلا أن ضحك ثانية، وخط على الورقة العبارة التالية :

"ما أسمى أن يكون موتي هو طريقي للحياة".

حينها لم يتمالك المحقق نفسه من شدة الغيظ، وجره بكل عنف وقسوة وأمر بشبحه وانهال عليه بالضرب المبرح عله ينال منه ويجبره على الكلام بوضوح، وما فتيء ينهال عليه ضربا بكل وحشية حتى غاب أحمد عن الوعي.

لم يشعر أحمد بمرور الوقت فقد استفاق وهو ملقى على الأرض في الزنزانة ذاتها، ولا يوجد موضع شبر في جسده إلا ورسمت عليه آثار التعذيب، واستمر على هذا الحال أياما والألم يعتصر قلبه، حتى بدأت جروحه بالالتئام ويرجع لوضعه الطبيعي، شاعرا بنشوة النصر!، كم كان يحمل في قلبه الشوق والحنين للحديث مع الأهل والأصداقاء والزملاء والأحبة، فهو محروم من الحديث مع أي انسان سوى سجانه.

... في ذلك اليوم تغيرت حياته وأصبح لها معنى آخر جميل.. حيث استيقظ أحمد صباحا ليجد زنبقة جميلة قد بدأت تنمو في أرضية في زاوية الزنزانة، تحدت الظلام والجدار الاسمنتي الصلب واليأس، وخرجت مؤذنة بمولد حياة جديدة في ظل رائحة الموت المنتشرة في أرجاء الزنزانة، كم سعد وفرح بها، لقد أحبها من أعماق أعماقه، فقد ملكت عليه كل حياته وروحه، وأنارت عليه كل الزنزانة.. كم غيرت من نمط حياته، ورممت نفسيته الممزقة، وأعادت البهجة والسرور لمشاعره العاثرة وهو يلاحظها بين الفينة والأخرى، تمزق خيوط  الظلام الذي يحيط بها.

اعتنى بها كطفل صغير حديث الولادة، تقاسمه نصيبه من الماء يوميا وطفق يلملم ما أمكنه جمعه من تراب وغبار ليغطي جذرها الذي واراه في كأس وغمره بتلك الأتربة  التي جمع.

 في كل يوم كان يحمل هذا الكأس بين يديه ويرفعه برفق وحنان ليقربه من الفتحة الصغيرة المسماة (شباك) ويجعلها تستنشق هواء الحرية وتنعم بضوء الشمس.

أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياته، يراقبها.. يكلمها.. ويهمس لها بآلامه ويبث لها أحزانه وهمومه ويشاركها في أحلامه من بين الركام حتى أصبحت أنيسا له في وحدته ومعينا له في قلبه على وحشته.

مرت عليه سنوات نسي عدَها  دون أن يسمع عن الأهل أي خبر، دون أن يزوره أي منهم، إلى أن جاء اليوم الذي أخبره فيه سجانه بأن له في الغد زيارة من أهله، لم يتمالك نفسه من شدة الفرح بهذا الخبر، فبكى بكاء حارا من فرط الفرح، وبدأ يعد الثواني والدقائق التي أخذت تسير ببطء شديد.

ليل كئيب لا ينتهي، كان أحمد يثبت فيه نقش ملامح أحبابه كي لا تنمحي صورهم من ذاكرته المتعبة، حيث أخذ يشحذ كل ذكرياته ويستجمع كل قواه ويستنفذ كل شجاعته، كي يهون على قلبه وقلوب زائريه وقع اللقاء الأول بعد كل هذا الغياب القسري، وأخذ يرسم في مخيلته اللحظة التي سيقابلهم فيها، لا يدري من سيزوره في الغد، والده أم والدته أم اخوته ، لا تتوفر لديه معلومات عن الزائر.

وفي الصباح أبلغ بأن الزيارة في هذه المرة ستكون من قبل أمه وأخته الصغرى حنان، التي فارقها منذ فترة ليست بقليلة، حيث كانت في السنة الأولى من عمرها عندما اعتقل.

شرائط وردية زينت شعرها وفستان ساندريلا، فاليوم بالنسبة لحنان عيد، حيث أمسكت يد أمها لتصعدا معا درجات الحافلة التي ستقلهما إلى السجن، وبيدها الثانية حملت كل أشواقها، أشواق رسمتها على صفحات بيض، لونتها بألوان الطفولة البريئة وترسم في ذهنها صورة لأخيها الأكبر أحمد، التي لا تكاد تتذكر أيا من ملامحه، إلا أنها استطاعت ببراءتها أن ترسم له صورة بملامح شرقية وعيونه الكهرمانية المشتاقة، بسمرته المشربة بحمرة وجنتيها.

توليفة من الإيمان والصبر والحب والإباء، وذلك القيد اللعين الذي أدنى معصميه، ودماء من دفق قلبها الصغير غذت بها شرايين فؤادها.

أما عن أمه فهي مرادف للصبر تخاطر عجيب ذلك الذي بينهما.. هد جدران السجن، وأذاب حديد القيد، وأنار عتمة الليل، تمسك قلبها عن الهرولة بلقائه.. لم يسبقها إليه أحد فهي لحظات الحب والحنين والشوق.

لأول مرة يتناهى الى أذنيها تلك الالحان الشجية، أمي ..أمي!!.

أطرقت سمعها وأغلقت قلبها، مخافة أن تفقد رنين الكلمات، احتضنت صوته، وصوته فقط ، ومدت إصبع سبابتها من فرجة صغيرة في أسفل نافذة الزنزانة السوداء، فالتقى البنان بالبنان للحظات، لم يتسنَ لها أن تشبع عينيها من رؤيته وتطفيء ظمأ شوقها، حتى نادى صوت بلكنة أجنبية .. انتهت الزيارة.

رحيل دون وداع ودون موعد للقاء جديد!!، كان هذا اللقاء مفعما بالشوق الذي استوطن بين ضلوعه، فمدة الزيارة كانت قصيرة جدا ، ولم تمهله إدارة السجن من التحدث كما يجب مع أمه في هذه البرهة الوجيزة.

عاد إلى زنزانته من  جديد، وأخذ يستعيد الحوار الذي دار بينهم مئات بل آلاف المرات، كم كان سعيدا بالأخبار الموجزة التي استطاع أن يختلسها من غفلة الزمن، وقد علم أن والده لم يزل بخير وأنه ينتظر خروجه من المعتقل ليراه ثانية كما تمنى، مهندسا ناجحا في عمله، يعمل جاهدا على خدمة أهله وبلده، حيث كان هذا الوالد ولا يزال موقنا بأن العلم من الركائز الأساسية لمقاومة المحتل.

أحس من خلال زيارة أمه أنها قدمت له جرعة من إكسير الحياة، ارتشفها لتعيد له بناء جديدا لطموحه وآماله، فالسجن للرجال كما قالت له، وأن ليل السجن مهما طال فلا بد أن ينجلي.

لازال صدى كلماتها يرن في أذنيه :

" أنت كما عهدتك يا أحمد، شاب طموح، لا ينكسر ولا يلين ويسعى دوما لتحقيق هدفه السامي، فابق كما عهدتك، ولا تخيب ظني وظن والدك"

وتمر السنون بشكل طويل، وتنقضي سنين السجن بمرارها وعذابها، وتنطوي من عمر أحمد صفحات سوداء مدتها عشر سنوات ، ليصل بعدها إلى مرافيء الحرية ويستنشق عبيرها.

فها قد عاد السيف إلى قرابه وحل الليث منيع غابه.

كان يتأمل الغروب بعينيه اللامعتين من على شرفة بيته المتواضع، ونسمات الهواء الندية تصفع وجهه وتتلاعب بخصل شعره الأسود الناعم، فينتثر على جبينه ذي الملامح الشرقية، وهناك مسبحة كهرمانية داعبت أنامل يمناه بحباتها، أشاح ببصره وقد تبدلت ملامحه ، يبحث بلا جدوى في ركام ذكرياته الذي فقد بمرور الزمن بين أنقاض البيوت وتحت الرصاص المتطاير من أفواه البنادق في قريته المتواضعة التي عبثت بها يد المحتل قبل عشر سنين.

كان حلمه آنذاك أن يكون مهندسا معماريا يبني بلده ويعمل على تطويرها والنهوض بها لتصبح في مصاف المدن الراقية.

ارتشف الشاي من كأس كان يمسكه بكلتا يديه، وهو يجول في  نظره في الأفق البعيد، وقد اتخذ قراراً في هذه الأثناء وعاهد نفسه على المضي قدما لتحقيقه.

التحاقه بالجامعة وإكمال تعليمه من أجل أن يصبح أحمد المهندس الذي طالما حلم به والده.